كان أبو طالب لا مالَ له، فلمَّا عاد النبيُّ ﷺ من هذه الرِّحلة، بدأ يسعى في طلب الرِّزق، وقد اشتغل النّبيُّ ﷺ في صِباه برعيِ الغَنَم، ورعاها لبعض أهل مكَّةَ بأجر، وبذلك ضرب مثلًا عاليًا منذ صِغَره في اكتساب الرِّزق بالكدِّ والتَّعَب.
حديثه ﷺ عن رَعْيِه للغنم:
روى البخاريُّ (2262) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيَّ ﷺ قال: "ما بَعَثَ اللهُ نبيًّا إلَّا رعى الغَنَم"، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهل مكَّةَ". والقيراط: هو جزء من الدِّينار والدِّرْهم.
وروى البخاريُّ في الأدب المفرَد (450) عن عبدةَ بنِ حَزْنٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: "بُعِثَ موسى وهو راعي غَنَم، وبُعِث داودُ وهو راعي غنم، وبُعِثْتُ أنا وأنا أرعى غنمًا لأهلي بأجْيَاد". وأجياد جَبَلٌ بمكَّةَ
الحِكمة في رعيِ الأنبياء للغنم:
الحكمة في إلهام الأنبياء لرعي الغنم قبل النُّبوَّة أمورٌ، منها :
أنّه يَحصُل لهم التَّمرُّن برَعْيِها على ما يُكلَّفونه من القيام بأمر أُمَّتهم.
أنّ في مخالطتها ما يحصِّل لهم الحِلْم والشَّفَقة؛ لأنّهم إذا صبروا على رَعْيها وجَمْعها بعد تفرُّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سَبُع وغيره كالسّارق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدَّة تفرُّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة، أَلِفوا من ذلك الصَّبر على الأُمَّة، وعَرَفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجَبَروا كَسْرَها، ورَفَقوا بضعيفها، وأحسنوا التَّعاهُد لها، فيكون تحمُّلهم لمشَقَّة ذلك أسهلَ ممَّا لو كُلِّفوا القيامَ بذلك من أوَّل وَهْلة؛ لِما يَحصُل لهم من التّدريج على ذلك برَعْيِ الغَنَم.
خُصَّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعفَ من غيرها؛ ولأنّ تفرُّقها أكثرُ من تفرُّق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرَّبط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثريَّة تفرُّقها، فهي أسرعُ انقيادًا من غيرها.
أنّ فيه كسبًا مادّيًّا من عمل اليد، وأفضلُ الكسب ما كان من عمل اليَد؛ رَوَى البُخَارِيُّ (2072) عَنِ المِقْدَامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ الكِنْدِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيهِ السَّلامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ".
في ذكر النّبيِّ ﷺ لذلك بعد أن عَلِم كونَه أكرمَ الخلق على الله هو من عظيم التَّواضُع لربِّه، والتَّصريح بمِنَّته عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.