لقد تكفَّل الله تعالى بعصمة نبيَّه ﷺ وحفظه من أعدئه، وقد كان النبي ﷺ يعتمد على عصمة الله له، بعد أن وعده بالعصمة من الناس، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وحدثت وقائع كثيرة بدا جليًّا عصمة الله تعالى لنبيِّه ﷺ، فكانت من علامات النبوَّة؛ ليَهلِك من هلك عن بيِّنة؛ كاليهود الذين أرادوا بوضع السمِّ أن يختبروا نبوَّته ﷺ، رغم وضوح صحَّتها، فلما تبيَّن لهم، عاندوا ولم يُسلِموا.
قال ابن كثير في تفسيره (3/ 154): "فَكُلَّمَا هَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوءٍ، كَادَهُ اللَّهُ، وَرَدَّ كَيْدَهُ عَلَيْهِ، لَمَّا كَادَهُ الْيَهُودُ بِالسِّحْرِ، حَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَتِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دَوَاءً لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَلَمَّا سَمَّ الْيَهُودُ فِي ذِرَاعِ تِلْكَ الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ وَحَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا".
أمر الشاة المسمومة:
روى مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ».
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/ 246): "وفي حديث أنس المشار إليه، فقالت: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكَ عَلَى ذَلِكَ"، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأُرِيحُ النَّاسَ مِنْك. أخرجه البيهقي".
وروى البخاريُّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ» فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ أَبُوكُمْ؟»، قَالُوا: فُلاَنٌ، فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ؛ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ»، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟»، قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اخْسَؤوا فِيهَا، وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ، قَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟»، قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ".
مصير المرأة الفاعلة للسمِّ:
قال النوويُّ في شرح مسلم (14/ 179): "فِيهِ بَيَانُ عِصْمَتِهِ ﷺ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَاللَّهُ يعصمك من الناس}، وهي معجزة لرسول الله ﷺ فِي سَلَامَتِهِ مِنَ السُّمِّ الْمُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَفِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، وَكَلَامِ عُضْوٍ مِنْهُ لَهُ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ))، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ الْفَاعِلَةُ لِلسُّمِّ اسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ، روينا تَسْمِيتها هَذِهِ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَاخْتَلَفَ الْآثَارُ وَالْعُلَمَاءُ هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ أم لا؟ فوقع فى صحيح مسلم أنهم قالوا: "ألا نقتلها؟"، قال: لا. ومثله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ، وَعَنْ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ ﷺ قتلها، وفى رواية ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ ﷺ دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا، فَقَتَلُوهَا، وَقَالَ ابن سَحْنُون: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَتَلَهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ لم يقتلها أوَّلًا حين اطَّلَعَ عَلَى سُمِّهَا، وَقِيلَ لَهُ: اقْتُلْهَا، فَقَالَ: لَا، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ ذلك، سلَّمها لأوليائه فقتلوها قصاصًا، فيصحُّ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَقْتُلْهَا؛ أَيْ: فِي الْحَالِ، وَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ: قَتَلَهَا؛ أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
أثر سُمِّ الشاة على النبيِّ ﷺ:
قال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (18/ 62): "لم يضرَّ ذلك السُّمُّ رسول الله ﷺ طول حياته غير ما أثَّر بلهواته، وغير ما كان يعاوده منه في أوقات، فلما حضر وقت وفاته، أحدث الله تعالى ضرر ذلك السُّم في النبيِّ ﷺ، فتوفِّي بسببه؛ كما قال ﷺ في مرضه الذي توفِّي فيه: "لم تزل أكلة خيبر تعاودني، فالآن أوان قطعت أبهري"، فجمع الله لنبيِّه ﷺ بين النبوَّة والشهادة؛ مبالغةً في الترفيع والكرامة".