لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ بالهدى ودين الحق، فمن اتبع هداه فاز في الدارين وأفلح، ومن خالفه ضلَّ وخسر الدنيا والآخرة؛ فقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}؛ أي: إلى المنهج القويم المؤدِّي إلى الفوز والفلاح، {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فليس مسؤولًا عن إيمانكم، وليس مقصِّرًا إذا أنتم تولَّيتم؛ إنما أنتم المسؤولون المعاقَبون بما تولَّيتم، وبما عصيتم، وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا:
قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54].
قال ابن كثير في تفسيره (6/ 76): "ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ ؛ أَيِ: اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ ؛ أَيْ: تَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَتَتْرُكُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ ؛ أَيْ: إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ ؛ أَيْ: مِنْ ذَلِكَ، وتعظيمه والقيام بِمُقْتَضَاهُ، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [الشُّورَى: 53]".
قال ابن تيمية في "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (1/ 294، 295): "ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف؛ كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبَّل الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تَنفَع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبِّلك لَمَا قبَّلتُك، والله سبحانه أمرَنا باتِّباع الرسول وطاعته، ومُوالاته ومحبَّته، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إلينا مما سواهما، وضَمِن لنا بطاعته ومحبَّته محبَّة الله وكرامته؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء: 13]، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
ولا ينبغي لأحد أن يَخرُج في هذا عمَّا مَضَت به السُّنَّة، وجاءت به الشريعة، ودلَّ عليه الكتاب والسنَّة، وكان عليه سلَف الأمَّة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرَّم ذلك كلَّه".
وجوب طاعة النبيِّ ﷺ:
قال القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2/ 16- 18): "وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ، فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى به؛ قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: 20]، وقال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النور: 54]، وقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132]، وقال: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54]، وَقَالَ: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 79]، وَقَالَ: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 68]، وَقَالَ: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 63]، فَجَعَلَ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ، وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِسُوءِ الْعِقَابِ، وَأَوْجَبَ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَئِمَّةُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي الْتِزَامِ سُنَّتِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ، يُطِعِ اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ... "وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب: 66]، فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنِّي".
أحاديث تدلُّ على وجوب طاعة النبيِّ ﷺ:
الأحاديث التي وردت في وجوب طاعة النبيِّ ﷺ كثيرة يصعب حصرها، نذكر منها:
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «... فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه البخاريُّ ومسلم.
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» رواه البخاريُّ.
- عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ) رواه البخاريُّ ومسلم. (أنا النذير العريان): قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدًا منهم؛ ليُخبرهم بما دهمهم. (فالنجاء)؛ أي: انجوا النجاء، أو اطلبوا النجاء. (فأدلجوا): معناه ساروا من أول الليل. (اجتاحهم): استأصلهم.